الرياضيات: أسطورة وتاريخ


من غير المعتاد كثيرًا أن تُحدِث مسألةٌ رياضية قديمة شائكة تلك الجَلَبة، ولكن في عام ١٩٩٣ أعلنت الصحففي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة أن عالِم رياضيات في الأربعين من عمره يُدعَى أندرو وايلز، قد شرح في محاضرة في معهد إسحاق نيوتن في كامبريدج .« نظرية فيرما الأخيرة » برهانًا لمسألةٍ عمرها ثلاثمائة وخمسون عامًا، معروفة باسم اتضح في النهاية أن ذلك الزعم كان سابقًا لأوانه قليلًا؛ إذ كانت صفحات وايلز المائتان تحتوي على خطأ احتاج بعض الوقت لتصويبه، ولكن بعد عامين صار البرهان محكمًا؛ وقد أصبحت قصة معركة وايلز ذات السنوات التسع موضوعًا لكتابٍ، وفيلمٍ تليفزيوني بكى خلاله وايلز وهو يتحدَّث عن إنجازه.
أحد الأسباب التي جعلت هذه القطعة من التاريخ الرياضي تستولي على الخيال العام؛ كان بلا مِرْية صورةَ وايلز نفسه؛ فَلِسبع سنوات قبل محاضرة كامبريدج عَمِل وايلز في شبه انعزال، ناذرًا نفسه للرياضيات العميقة والمعقدة للنظرية. كنَّا هنا بصددِ قصةٍ تتوافق تمامًا مع أساطير الثقافة الغربية؛ البطل المتوحِّد الذي يكافحضد الصعاب، ليصل إلى هدفه العسير المنال. بل كانت القصة تحتوي على أميرة؛ إذ كانت زوجته فقط هي التي عرفَتْ هدفَه النهائي، وكانت أول مَن تلقَّى البرهانَ المنتهي، كهدية عيد ميلاد. ثمة سببٌ ثانٍ يتمثَّل في أنه على الرغم من أن البرهان النهائي لنظرية فيرما الأخيرة
لم يستوعِبْه تمامًا أكثر من عشرين شخصًا في العالَم، فإن نَصَّ النظرية كان في حد ذاته بسيطًا. لقد انجذب وايلز إليها عندما كان في العاشرة، وحتى أولئك الذين نسوا منذ زمن بعيد معظمَ الرياضيات التي تعلَّموها، كان بإمكانهم أن يستوعبوا ما تدور النظريةُ حولَه؛ وسنعود إلى هذا بعد قليل.
لكن قبل ذلك، لاحِظْ أن ثلاثة أشخاص قد ذُكِروا بالاسم في الفقرة الأولى من هذا الفصل: وايلز، ونيوتن، وفيرما. في الرياضيات هذا شيء نموذجي؛ فمن المعتاد أن تُطلَق أسماء الرياضيين على النظريات أو التكهنات أو المنشآت؛ وسبب هذا أن معظم الرياضيين يَعُونَ تمامًا أنهم يبنون على عملٍ أتَمَّه سابقوهم أو زملاؤهم. بكلمات أخرى، إن الرياضيات موضوعٌ تاريخي متأصِّل، نادرًا ما تكون فيه المحاولات السابقة بعيدةً عن العقل. وحتى نبدأ في التفكير حول الأسئلة التي يطرحها مؤرِّخو الرياضيات، دَعْنا نتتبع إلى الوراء نظريةَ فيرما الأخيرة من محاضرة مدرج كامبريدج في عام ١٩٩٣ إلى بداياتها البعيدة.

تعليقات