النظرية الذرية ووصف الطبيعة

مقدمة ونظرة عامة
(١٩٢٩)
مهمة العلم ذات شقين: الأول توسيع مدى خبرتنا، والثاني اختزالها في ترتيب
منظم، ولهذه المهمة جوانب متنوعة لا ينفصل أحدها عن الآخر. ولا نتوصل
إلى التعرف إلى تلك القوانين التي تمنحنا نظرة شاملة لتنوع الظواهر إلا
بالخبرة فقط. وكلما اتسعت معارفنا استعددنا دائمًا، لهذا السبب، لتوقع
الاضطرابات في وجهات النظر التي تتواءم مع تنظيم خبرتنا. وفي هذا الصدد،
علينا أن نتذكر — فوق كل ذلك بالطبع — أن كل الخبرة الجديدة تظهر في
إطار وجهات نظرنا المعتادة وإدراكنا الحسي. أما الشهرة النسبية التي تتوافق
مع السمات المتنوعة للتساؤل العلمي فتعتمد على طبيعة المادة موضوع
الدراسة. وفي الفيزياء — حيث تتكون مشكلتنا في تنسيق خبرتنا عن العالم
الخارجي — سيصبح السؤال عن طبيعة أشكال إدراكنا الحسي عمومًا أقل
حدة منه في علم النفس، حيث موضوع الدراسة هو نشاطنا الذهني الخاص.
في المشاهدات الفيزيائية ستصبح مناسبة « الموضوعية » ومع ذلك فإن هذه
لخبرتنا. وهناك العديد من هذه الأمثلة « الذاتية » بالتحديد لتحفيز الصفة
في تاريخ العلوم. وإنني أحتاج فقط إلى الإشارة للمغزى العظيم لدراسة
الظواهر الصوتية والبصرية، التي امتلكتها الوسائط الفيزيائية لأحاسيسنا
على الدوام، في تطور التحليل السيكولوجي. وكمثال آخر، قد نلاحظ الدور
الذي لعبه توضيح وشرح قوانين الميكانيكا في النظرية العامة للمعرفة. وقد
كانت هذه السمة الأساسية للعلم بارزة بالتحديد أثناء التطورات الأخيرة
للفيزياء. وقد ألقى التوسع العظيم في خبرتنا في السنوات الأخيرة الضوء على
عدم كفاية إدراكنا الميكانيكي البسيط، ونتيجة لذلك تأثرت الأسس التي
كانت تقوم عليها تفسيراتنا العادية للمشاهدات، ملقية بذلك ضوءًا جديدًا
على المشاكل الفلسفية القديمة. وهذا الأمر ليسصحيحًا في مراجعة أساسيات
نمط الزمكان في الوصف فقط، الذي جاءت به النظرية النسبية، بل صحيح
أيضًا في المناقشات المتجددة لمبدأ السببية الذي بزغ من نظرية الكم.
ويرتبط بلا انفصام أصل النظرية النسبية مع تطور المفاهيم
الكهرومغناطيسية، وهو التطور الذي أنتج الانتقال المدوي للأفكار التي تقف
وراء الميكانيكا، وذلك بالتوسع في الفكرة العامة للقوى. وقد أدّى الاعتراف
بالخاصية النسبية في ظواهر الحركة — وكونها تعتمد على المشاهد — دورًا
أساسيٍّا في تطوير الميكانيكا الكلاسيكية؛ فقد استخدمت كمساعدة فعالة
في صياغة القوانين العامة للميكانيكا. وحتى الآن قُدِّمَت بنجاح التساؤلات
موضوع النقاش وعولجت معالجة كافية ظاهريٍّا، وذلك من وجهتي نظر
كل من الفيزياء والفلسفة. وقد كانت النظرية الكهرومغناطيسية — التي
استحدثت السرعة المحددة لانتشار فعل القوى — هي التي دفعت في الحقيقة
الموضوع إلى ذروته. نعم، إنه من الممكن إقامة نمط سببي للوصف، على
أساس النظرية الكهرومغناطيسية، يحتفظ بقوانين الميكانيكا الأساسية في
الحفاظ على الطاقة وعلى كمية الحركة، إذا كانت كل من الطاقة وكمية الحركة
تُعزى إلى مجالات القوى نفسها. ومع ذلك فإن مفهوم الأثير العالمي — الذي
كان مفيدًا في تطوير النظرية الكهرومغناطيسية — يظهر في هذه النظرية
كإطار مرجعي مطلق لوصف الزمكان. وقد أكد بشدة فشل كل المحاولات
الرامية لتوضيح حركة الأرضلهذا الأثير العالمي الافتراضي، وأكد عدم كفاية
خواص هذا المفهوم من وجهة النظر الفلسفية. ولم يتحسن هذا الوضع
بالاعتراف بأن فشل مثل هذه المحاولات جميعها كان يتفق كلية مع النظرية
الكهرومغناطيسية. وكان توضيح أينشتاين للتحديد الذي تفرضه السرعة
المحدودة لانتشار كل تأثيرات القوى — بما في ذلك الإشعاع — على إمكانيات
المشاهدة، وبالتالي على تطبيق مفهوم الزمكان؛ هو الذي أدى بنا أولًا إلى
موقف أكثر تحررًا تجاه هذه المفاهيم، وهو الموقف الذي وجد أعظم تعبير
مدهش عنه في الاعتراف بنسبية مفهوم التزامن. وكما نعلم، فإن أينشتاين
عندما تبنى هذا الموقف، نجح في تتبع علاقات جديدة مميزة خارج الميدان
الذي تنطبق عليه النظرية الكهرومغناطيسية بالضبط، وفي نظريته النسبية
العامة — حيث لا تشمل تأثيرات الجاذبية بعد الآن على وضع خاص ضمن
الظواهر الفيزيائية — تعامل بدرجة غير متوقعة مع وصف وحدة الطبيعة،
التي هي المثال على النظريات الفيزيائية الكلاسيكية.
بزغت النظرية الكمية من تطور المفاهيم الذرية، التي زودتنا على
الدوام، وعلى مدى القرن الماضي (التاسع عشر)، بمجال مثمر لتطبيق
الميكانيكا والنظرية الكهرومغناطيسية. ومع ذلك ففي السنوات الأولى لهذا
القرن كان مقدرًا لتطبيق هذه النظريات على المشكلات الذرية أن يوحي
بتحديد غير مرئي حتى الآن، وجد تعبيرًا عنه في اكتشاف بلانك الذي
يدعى كم الفعل، والذي يفرض على العمليات الذرية المنفردة عنصر عدم
الاستمرارية الغريب بالفعل على المبادئ الأساسية للفيزياء الكلاسيكية، التي
تنص على أن كل الأفعال قد تتغير باستمرار. وقد أصبح كم الفعل لا
مفر منه في ترتيب معرفتنا التجريبية عن خواص الذرة بصورة متزايدة.
وفي الوقت نفسه، اضطررنا بالتدريج للامتناع عن الوصف السببي لسلوك
الذرات المنفردة في الزمان والمكان، وأن نعتمد بمحض اختيارنا على الجزء
من الطبيعة الكائن بين الاحتمالات المتنوعة الذي يمكن أن ينطبق عليه
الاعتبارات الاحتمالية فقط. وقد أدى السعي إلى صياغة قوانين عامة لهذه
الإمكانيات والاحتمالات بواسطة تطبيق مناسب ومحدود لمفاهيم النظريات
الكلاسيكية، أدى حديثًا بعد سلسلة من الأطوار في تطوره، إلى إيجاد ميكانيكا
كم منطقية، نستطيع بواسطتها وصف مدى عريض جدٍّا من الخبرة، يمكن
اعتبارها بكل المعايير تعميمًا للنظريات الفيزيائية الكلاسيكية. وبالإضافة
لذلك، فقد توصلنا بالتدريج إلى فهم تام للارتباط الحميم بين التخلي عن
السببية في التوصيف الميكانيكي — الكمي والتحديد بالنسبة لإمكانية التفريق
بين الظواهر ومشاهدتها، التي يحكمها عدم انقسام كم الفعل، ويتضمن
التعرف على هذا الوضع تفسيرًا أساسيٍّا في موقعنا تجاه مبدأ السببية وأيضًا
تجاه مفهوم المشاهدة.
ومع نقاط الخلاف العديدة فإن هناك تماثلًا داخليٍّا عميقًا بين المشاكل
التي تقابلنا في النظرية النسبية وتلك المتضمنة في نظرية الكم. وما يعنينا
في كلتا الحالتين هو التعرف على القوانين الفيزيائية التي تقع خارج مجال
خبرتنا العادية وتمثل صعوبات للصور المعتادة لإدراكنا الحسي. وقد تعلمنا
أن هذه الصور للإدراك الحسي مثالية، ومواءمتها لانطباعات إحساسنا
العادي بالترتيب تعتمد على سرعة الضوء المحدودة عمليٍّا وعلى صغر كم
الفعل. وعلينا ألا ننسىأثناء تقييمنا لهذا الموقف، مع ذلك، أنه مع محدوديتها
فإننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستغني عن هذه الصور لإدراكنا
الحسي التي تلون كل لغتنا، وبمدلولاتها لا بد أن نعبِّر في النهاية عن كل
الخبرة، إنها حالة العلاقات هذه فقط هي التي تمنح المشاكل موضوع
التساؤل — في المقام الأول — الإثارة الفلسفية العامة. وفي حين دخلت
النهاية الممنوحة لصورتنا عن العالم بواسطة النظرية النسبية بالفعل في
الوعي العلمي العام، فإن ذلك لم يحدث بنفس الدرجة في تلك الجوانب من
المشكلة العامة للمعرفة التي فسرتها نظرية الكم.
وعندما طُلب مني أن أكتب مقالًا للكتاب السنوي سنة ١٩٢٩ لجامعة
كوبنهاجن، نويت أولًا أن أقدم — في أبسط صورة ممكنة — تقريرًا عن
وجهات النظر الجديدة التي جاءت بها نظرية الكم، بدءًا من تحليل المفاهيم
الأولية التي تأسس عليها وصفنا للطبيعة. إلا أن انشغالي بواجبات أخرى لم
يدع لي ما يكفي من الوقت لاستكمال مثل هذا التقرير، الذي جاءت صعوبته
من التطور الدائم المستمر لوجهات النظر المتعلقة بموضوع التقرير، ولم
يكن ذلك أقل ما واجهني، ولإحساسي بهذه الصعوبة تخليت عن فكرة إعداد
شرح جديد، وأدى بي ذلك إلى استخدام ترجمة إلى اللغة الدانمركية لبعض
المقالات التي نشرت خلال السنوات الأخيرة في المجلات الأجنبية بوصفها
إسهامات في مناقشة مشكلات نظرية الكم، وقد أعددت الترجمة خاصة
لهذه المناسبة بدلًا من إعداد شيء جديد. وهذه المقالات تنتمي إلى سلسلة
من المحاضرات والأبحاث التي حاولت فيها من وقت لآخر تقديم نظرة
عامة متماسكة عن حالة النظرية الذرية في اللحظة الآنية. وبعض المقالات
السابقة من هذه السلسلة تشكل بصورة ما خلفية للمقالات الثلاثة التي أعيد
التي ألُقيت « بنية الذرات » إصدارها هنا. وينطبق ذلك بصدق على محاضرة
في ستوكهولم في ديسمبر سنة ١٩٢٢ ، ونُشرت في هذا الوقت كملحق لمجلة
نيتشر. وصوريٍّا تبدو المقالات الثلاثة التي تعاد هنا وكأنها مستقلة تمامًا
بعضها عن بعض. ومع ذلك فهي ترتبط معًا بشدة، في أنها تناقش أحدث
الأطوار في تطور النظرية الذرية، وهو الطور الذي أصبح فيه تحليل المفاهيم
الأساسية جليٍّا وبارزًا. وحقيقة أن المقالات تتبع منهج التطور، وأنها بذلك
تعطي انطباعًا لحظيٍّا بالتفسير المتدرج للمفاهيم، ربما تساعد بشكل ما في
جعل الموضوع أسهل تقبلًا من قبل القراء الذين لا ينتمون إلى الدائرة الضيقة
من الفيزيائيين. وفي الملحوظات الآتية حول الظروف الخاصة التي ظهرت
فيها المقالات، حاولت تيسير النظرة العامة على المحتويات وذلك بواسطة
إضافة بعض الملحوظات المرشدة، وحاولت — ما أمكنني ذلك — معالجة
عيوب الشرح التي قد تمثل صعوبات للدائرة الأوسع من القراء.
المقال الأول توضيح لمحاضرة ألقيت في المؤتمر الإسكندنافي الرياضي في
كوبنهاجن أغسطس سنة ١٩٢٥ . ويقدم المقال عرضًا لتطور نظرية الكم
في صورة مختصرة، حتى ظهور بحث هايزنبرج الذي بَشَّرَ بتطور جديد،
والذي نوقش في نهاية المقال. وتتناول المحاضرة تطبيق المفاهيم الرياضية
في النظرية الذرية، وتبين كيف أن ترتيب الكم الهائل من البيانات التجريبية
بمساعدة نظرية الكم قد مهد الطريق للتطور الجديد، الذي تميز بإيجاد
الطرق الميكانيكية — الكمية المنطقية. وفوق كل ذلك، فقد أدى التطور
السابق إلى الاعتراف باستحالة إجراء وصف سببي متماسك للظواهر الذرية.
وفي هذا الصدد فإن التخلي الواعي مضمن في هذه الصورة، وهو غير منطقي
من وجهة نظر النظريات الكلاسيكية، في صورة هذه الفروض، التي أشُير
إليها في المقال، وبنى عليها المؤلف تطبيق نظرية الكم على مشكلة البنية
الذرية. وحقيقة أن كل تغيرات الحالة في الذرة قد وُصِفَت بما يوافق متطلبات
عدم انقسام كم الفعل، كعمليات فردية تتحول بواسطتها الذرة من حالة
استقرار إلى حالة استقرار أخرى، من أجل حدوثها لا يمكن اعتبار سوى
الاعتبارات الاحتمالية، لا بد من جهة أن تحد بشكل كبير من مجال تطبيق
النظريات الكلاسيكية. ومن جهة أخرى، أدت الحاجة إلى التوسع في استخدام
المفاهيم الكلاسيكية — التي يعتمد عليها تفسير كل الخبرة — إلى صياغة
الذي يعبر (The correspondence principle) ما يسمى مبدأ التماثل
عن مساعينا للاستفادة من كل المفاهيم الكلاسيكية ويمنحها إعادة تفسير
نظرية كمية تناسبها. وكان مقدرًا للتحليل التفصيلي للبيانات التجريبية،
من وجهة النظر هذه، أن تبين أوضح فأوضح أننا لا نملك وسيلة ملائمة
بما يكفي لإجراء وصف محدد قائم على مبدأ التماثل.
وبسبب المناسبة الخاصة التي ألقيت فيها المحاضرة، أكُِّد في المقال على
توظيف المعونة الرياضية التي هي مميزة للفيزياء النظرية. وليست الصور
الرمزية في التعبير عن أن الرياضيات مجرد أدوات لا بد منها لوصف العلاقات
الكمية، ولكنها تقدم في الوقت نفسه وسائل أساسية لتوضيح وجهات النظر
الكيفية العامة. أما الأمل الذي عبرت عنه في نهاية المقال — بأن يثبت
التحليل الرياضيمقدرته على مساعدة الفيزيائيين مرة أخرى في التغلب على
مصاعبهم — فقد تحقق بدرجة أبعد من كل التوقعات. ولم يكن مقدرًا للجبر
التجريدي فقط أن يؤدي دورًا حاسمًا في صياغة ميكانيكا الكم لهايزنبرج،
كما أشرت في المقال، ولكن طُبِّقَت نظرية المعادلات التفاضلية — الأكثر أهمية
بين وسائل الفيزياء الكلاسيكية — في الحال بعد ذلك مباشرة وبقوة على
المشاكل الذرية. وكانت نقطة الانطلاق لهذا التطبيق هي التشابه الغريب
قد (Hamilton) بين الميكانيكا وعلم البصريات، وهي التي كان هاملتون
أسس عليها مساهمته المهمة في تطوير طرق الميكانيكا الكلاسيكية. وقد
أشار دي برويل أول مرة إلى مغزى هذا التشابه لنظرية الكم، فيما يتعلق
بنظرية أينشتاين المعروفة جيدًا عن كوانتا الضوء، مقارنة بحركة جسيمة
مع انتشار منظومة موجية. وكما أشار دي برويل، جعلت هذه المقارنة من
التي أشرت ،quantization الممكن منح معنى هندسيبسيط لقواعد الكنتمة
Schrodinger إليها في المقال، للحالات المستقرة للذرات. وقد نجحشرودنجر
في اختزال مشكلة ميكانيكا الكم إلى حل معادلة تفاضلية معينة، يطلق عليها
معادلة الموجة لشرودنجر، وذلك بواسطة التطوير المستمر لهذه الاعتبارات.
وهكذا زودنا بطريقة لعبت دورًا حاسمًا في التطوير العظيم الذي حدث
للنظرية الذرية في السنوات القليلة الماضية.
والمقال الثاني تفصيل وتوضيح لبحث قرأته في مؤتمر دولي للفيزيائيين
عقد في كومو في سبتمبر سنة ١٩٢٧ بمناسبة مئوية وفاة فولتا. وفي هذا
الوقت وصلت وسائل ميكانيكا الكم، المشار إليها فيما سبق، إلى درجة
رفيعة من الكمال وأظهرت فائدتها في تطبيقات عديدة. ومع ذلك فقد
ظهر تشعب واختلاف في الآراء وذلك فيما يتعلق بالتفسير الفيزيائي لهذه
الطرق، وقد أدى ذلك إلى كثير من النقاش. وعلى وجه الخصوص، أعاد
نجاح الميكانيكا الموجية لشرودنجر الحياة لآمال كثير من الفيزيائيين في
إمكانية وصف الظواهر الذرية على طول الخطوط المماثلة لخطوط النظريات
من النوع الذي كان حتى « اللامنطقيات » الفيزيائية الكلاسيكية بدون إقحام
الآن مميزًا لنظرية الكم. وعلى عكس هذه الرؤية، فقد توصلنا في المقال
إلى أن الفرضية الأساسية لعدم انقسام كم الفعل نفسه، من وجهة النظر
الكلاسيكية، عنصرغير منطقي يتطلب حتميٍّا تخطي الخط السببي للوصف،
بسبب التزاوج بين الظواهر والمشاهدة، الذي يجبرنا على تبني نمط جديد
للوصف يُسمى التكميلية، بمعنى أن أي تطبيق للمفاهيم الكلاسيكية يعوق
الاستخدام التوافقي لمفاهيم كلاسيكية أخرى، لها في مجال آخر نفس
الضرورة لتوضيح الظواهر. وقد أشير إلى أننا نواجه في الحال هذه السمة
عندما نتناول مشاكل طبيعة الضوء والمادة. وقد أكُِّد بالفعل في المقال الأول،
وأثناء وصفنا للظواهر الإشعاعية، على أننا نواجه مأزق الاختيار بين الوصف
الموجي للنظرية الكهرومغناطيسية ومفهوم الجسيمات في انتشار الضوء
ونظرية كوانتا الضوء. وفيما يتعلق بالمادة، فإن التوثيق الذي تلقته أفكار
دي برويل الموجية، في الوقت نفسه، بواسطة التجارب المعروفة جيدًا حول
انعكاس الإلكترونات على البلورات الفلزية، قد وضعنا أمام مأزق مماثل،
وذلك لأنه لا يوجد ما يمنع من التخلي عن فكرة فردية الجسيمات الأولية،
لأن هذه الفردية تكوِّن الأساس الآمن الذي يعتمد عليه كل التطوير الحديث
للنظرية الذرية.
والغرض الرئيسي للمقال هو إظهار أن سمة التكامل أساسية للتفسير
المتماسك للطرق النظرية الكمية. وقد قدم هايزنبرج مساهمة فعالة جدٍّا
في هذه المناقشة وذلك منذ وقت قصير، فقد أشار إلى الصلة القريبة بين
التطبيق المحدود للمفاهيم الميكانيكية وحقيقة أن أي محاولة لقياس حركة
الجسيمات الأولية وتتبعها تؤدي إلى إقحام تداخل لا يمكن اجتنابه أثناء
ذلك، وبذلك يتضمن عنصرًا لعدم التيقن يتحدد بمقدار كم الفعل. وتُظْهر
اللاتحديدية تلك خاصية تكميلية مميزة تحرم الاستخدام المتزامن لمفاهيم
الزمكان ولقوانين الحفاظ على الطاقة وكمية الحركة وهي تخص الصيغة
الميكانيكية للتوصيف. وحتى نفهم لماذا يكون التوصيف السببي غير عملي،
مع ذلك، من الضروري تذكر أن مقدار الاضطراب الذي تحدثه عملية
القياس غير معلوم دائمًا، كما هو موضح بالمقال. حيث ينطبق التحديد
الذي نتعرضله على أي استخدام للمفاهيم الميكانيكية، وبذا فإنه ينطبق على
واسطة المشاهدة تمامًا كما ينطبق على ظواهر موضوع الفحص. وتحمل هذه
الظروف نفسها حقيقة أن أي مشاهدة تحدث على حساب الرباط بين ماضي
سريان الظواهر ومستقبلها. وكماسبق أن أشرنا، فإن المقدار المحدود لكم
الفعل يمنع تمامًا التمييز الحاد بين الظاهرة ووسيط مشاهدتها، وهو
التمييز الذي يقبع في أساس المفهوم المعتاد المشاهدة وبذلك يكوِّن أساسيات
الأفكار الكلاسيكية عن الحركة. وإذا أخذنا ذلك في اعتبارنا، فإننا لن نفاجأ
بأن المحتوى الفيزيائي للطرق الكمية — الميكانيكية محدد بصياغة قواعد
إحصائية في العلاقات بين تلك النتائج للقياسات المميزة للمسارات المتنوعة
والممكنة للظواهر. وقد أكُِّدَ في المقال على أن رمزية الطرق موضوع الحديث
تقابل أساسًا الصفات غير المرئية للمشاكل التي نتعامل معها. وقد واجهنا
مثالًا مميزًا بالذات للتحديد المفروضعلى إمكانية تطبيق الأفكار الميكانيكية
عندما نوظف مفهوم الحالات المستقرة، التي دخلت كعنصر ضروري في
تطبيق نظرية الكم على مشاكل البنية الذرية، كما أشرنا سابقًا، حتى قبل
تطوير طرق ميكانيكا الكم. وكما هو واضح من المقال، فإن أي استخدام
لهذا المفهوم يستبعد إمكانية تتبع حركة جسيمة مفردة داخل الذرة. وما
يعنينا هنا هو التكميلية المميزة المشابهة لتلك التي تقابلنا عندما نتعرض
للمشاكل المتعلقة بطبيعة الضوء والمادة. وكماشرحنا بالتفصيل فإن مفهوم
« واقعية » — الحالات المستقرة قد يملك في الحقيقة — في إطار مجال تطبيعه
من الكِبَر، أو إن شئت من الصغر، مثل الجسيمات الأولية نفسها. وفي كل
حالة فإننا معنيون بالوسائل المناسبة التي تمكننا من التعبير بشكل متسق
عن السمات الأساسية للظواهر. وعدا ذلك، فإننا عندما نستخدم مفهوم
الحالات المستقرة تصبح الحاجة ماثلة أمامنا بشكل بين جدٍّا إلى نظرية الكم
للنظر في إلغاء تحديد الظواهر — كما سبق أن أكدنا في الفقرة الأولى من
المقال — وللتمييز بوضوح بين المنظومات المغلقة وغير المغلقة أيضًا. وبذا،
ففي حالة الذرات، فإننا نصل إلى فشل ذريع للنموذج السببي في الوصف
عندما نتناول حدوث عمليات الإشعاع. وفي الوقت نفسه، عندما نتتبع حركة
الجسيمات الحرة، نستطيع مشاهدة العجز في السببية بواسطة الأخذ في
الاعتبار العجز في المعرفة المتزامنة للكميات الداخلة في التوصيف الميكانيكي
الكلاسيكي. وسيتضح في الحال محدودية تطبيق المفاهيم الكلاسيكية في
تناولنا لسلوك الذرات، لأن توصيف حالة ذرة مفردة لا يتضمن إطلاقًا
أي عنصر يشير إلى حدوث عمليات التحول، وبذلك فإننا بالكاد يمكن أن
نتجنب الحديث عن الاختيار بين الاحتمالات المتعددة للذرة.
وفيما يتعلق بمشكلة الصفات الأساسية للجسيمات الأولية، ربما يكون
من المثير توجيه الانتباه إلى غرابة التكاملية التي تكشفت حديثًا. وحقيقة أن
التجارب التي فُسِّرت حتى الآن بإلصاقصفة العزم المغناطيسيبالإلكترونات،
قد حصلت على تفسير طبيعي بواسطة نظرية ديراك، التي نوقشت بإيجاز في
آخر فقرة في المقال، هي في الواقع مكافئة للقول إنه من غير الممكن اكتشاف
العزم المغناطيسي للإلكترون بواسطة التجارب المبنية على المشاهدة المباشرة
لحركته. والفرق بين الإلكترونات الحرة والذرات، الذي فوجئنا به هنا،
مرتبط بحقيقة أن قياس العزم المغناطيسي للذرات يتضمن التخلي — طبقًا
للظروف العامة التي تنطبق في الحالات المستقرة — عن جميع محاولات
تتبع حركة الجسيمات الأولية.
أما العمل المهم الذي لمسناه في ختام المقال — حول تلبية المتطلبات
العامة للنسبية في حدود إطار نظرية الكم — فلم يُنجز بعد بالصورة
المرضية. وفي الواقع، فإن نظرية ديراك التي أشرنا إليها سابقًا قد ألقت
الضوء على مصاعب جديدة، مع كونها خطوة كبيرة في هذا الصدد. ومع
ذلك، فقد يؤدي التعرف على هذه المصاعب، إلى تطوير وجهات نظر جديدة
فيما يتعلق بالمشاكل العويصة التي دفع بها وجود الجسيمات الأولية نفسها.
وفي حين يعتمد التوصيف الميكانيكي — الكمي الحالي على إعادة التفسير
المبنية على مبدأ التماثل، لنظرية الإلكترونات الكلاسيكية، فإن النظريات
الكلاسيكية لا تقدم دليلًا من أي نوع لفهم وجود الجسيمات الأولية نفسها
ولا لشحنتها الكهربية أو كتلتها. وعلينا بذلك أن نكون على استعداد لاكتشاف
أن التقدم التالي في هذا المجال سيتطلب المزيد من التخلي عن السمات التي
تعودنا عليها، وذلك يتطلب نمط التوصيف الزمكاني بدلًا مما يتطلبه هجوم
النظرية الكمية على المشكلة الذرية، وعلينا أن نكون مستعدين أيضًا لتوقع
مفاجآت جديدة فيما يتعلق بتطبيق مفاهيم كمية الحركة والطاقة.
ويجعل الاستخدام الموسع للرموز الرياضية — المميز لطرق ميكانيكا
الكم — الأمر صعبًا أن تحصل على انطباع حقيقي عن جمال هذه الطرق
وتماسك منطقها دون الدخول في التفاصيل الرياضية. ومع أنني سعيت
قدر طاقتي أثناء إعداد المقال أن أتجنب استخدام الحيل الرياضية، فإن
الغرضمن المحاضرة المقدمة لمجموعة من الفيزيائيين هو فتح باب النقاش
بقدر المستطاع حول الاتجاه الحالي في تطوير نظرية الكم. وقد جعل ذلك
من الضروري الدخول في التفاصيل التي بدون شك ستجعل الأمر صعبًا
على القراء الذين لم يطلعوا على الموضوع مسبقًا. إلا أنني أود الإشارة إلى
أن التأكيد الرئيسي على نظرية المعرفة البحتة ومستواها ملأ المقال، وهو
الأمر الواضح بالذات في المقطع الأول وملحوظات الاستنتاج.
والمقال الثالث مساهمة في مطبوعة اليوبيل التي صدرت في يونيو سنة
١٩٢٩ للاحتفال بالسنوية الخمسين للدكتوراه الخاصة ببلانك. وقد ناقشتُ
السمات الفلسفية العامة لنظرية الكم بمزيد من التفاصيل. وفي ضوء الأسف
الذي يُعَبَّر عنه على نطاق واسع فيما يتعلق بأفكار نمط السببية المحدد في
توصيف الظواهر الذرية، فإن محاولات الكاتب لإظهار الصعوبات المتعلقة
بصيغنا للإدراك الحسي، الذي يظهر في النظرية الذرية بسبب عدم قابلية
كم الفعل للانقسام؛ يمكن اعتبارها تذكرة منورة بالظروف العامة التي
في أساس تكوين مفاهيم الإنسان. وتضعنا استحالة التفرقة بين الظواهر
الفيزيائية ومشاهدتها بالطرق المعتادة، في الواقع، في وضع مشابه تمامًا
للوضع المألوف في علم النفس، حيث نتذكر دائمًا صعوبة التمييز بين الذات
والموضوع. وربما يبدو لأول وهلة أن مثل هذا الموقف تجاه الفيزياء يترك
مكانًا للتصوف الذي هو ضد روح العلوم الطبيعية. ومع ذلك فلا يمكننا
بعد الآن أن نأمل في التوصل إلى فهم واضح في الفيزياء دون أن نواجه
الصعوبات الناجمة في تشكيل المفاهيم وفي استخدام وسط التعبير أكثر
من استطاعتنا ذلك في مجالات أخرى للتساؤلات البشرية. وهكذا، وتبعًا
لوجهة نظر المؤلف، لا بد أنه اعتقاد خاطئ أن نعتقد في إمكان التملص
من مصاعب النظرية الذرية أخيرًا بواسطة إحلال صور جديدة من المفاهيم
بدلًا من مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. وفي الواقع، وكما أكدنا بالفعل، فإن
التعرف على حدود أشكال إدراكنا الحسي لا يتضمن بأي حال من الأحوال
إمكانية أن نتحلل من أفكارنا المعتادة، أو التعبير الكلامي المباشرعنها عندما
نختزل انطباعات أحاسيسنا إلى ترتيب معين. ومن المحتمل بعد الآن أن
تصبح المفاهيم الأساسية للنظرية الكلاسيكية غير ضرورية لوصف الخبرة
الفيزيائية. ولا يعتمد إدراك عدم انقسام كم الفعل وتعيين مقداره فقط
على تحليل القياسات المبنية على المفاهيم الكلاسيكية، لكنه لا يزال مستمرٍّا
كتطبيق لهذه المفاهيم وحدها مما يجعل من الممكن ربط الرمزية في نظرية
الكم بالبيانات في خبرتنا. وفي الوقت نفسه، مع ذلك، علينا أن نذكر دائمًا أن
إمكانية الاستخدام الواضح لهذه المفاهيم الأساسية تعتمد كلية على التماسك
الذاتي للنظريات الكلاسيكية التي اشتقت منها، وأنه لذلك فإن الحدود
المفروضة على تطبيق هذه المفاهيم تتحدد طبيعيٍّا بالمدى الذي يمكن أن
نهمل عنده العنصرالقريب على النظريات الكلاسيكية عند تناولنا للظواهر،
والذي يرمز إليه بكم الفعل.
وهذه الظروف هي فقط الواضحة في المعضلة التي نكرر مناقشتها كثيرًا
فيما يتعلق بخواص الضوء والمادة. وبمدلول النظرية الكهرومغناطيسية
الكلاسيكية فقط من الممكن إعطاء محتوى حقيقي ملموس لمشكلة طبيعة
الضوء والمادة. وكل من كوانتا الضوء وموجات المادة في الحقيقة وسائل لا
تقدر بثمن في صياغة القوانين الإحصائية التي تحكم الظواهر مثل الظاهرة
الفوتوكهربية وتداخل أشعة الإلكترونات. ومع ذلك فهذه الظواهر تنتمي إلى
مجال يتطلب بالضرورة أخذ كم الفعل في الاعتبار، وحيث يصبح التوصيف
غير الغامض مستحيلًا. وتتضح بجلاء الخاصية الرمزية للحيل المذكورة
فيما سبق بهذا المعنى، وذلك حيث إن التوصيف الشامل لمجالات الموجات
الكهرومغناطيسية لا يترك مجالًا لكوانتا الضوء، وكذلك عند استخدام مفهوم
موجات المادة، لا يمكن أبدًا إثارة التساؤل حول التوصيف الكامل المماثل
للتوصيف في النظريات الكلاسيكية. وفي الحقيقة، وكما سبق التأكيد عليه
في المقال الثاني، لا يمكن أن تؤخذ في الاعتبار القيمة المطلقة لما يسمى
طور الموجات عندما نفسر نتائج التجارب. وفي هذا الصدد، لا بد كذلك
الخاص بدالة السعة لموجات « سعة الاحتمال » من التأكيد على أن مصطلح
المادة هو جزء من طريقة التعبير، التي مع كونها مريحة فإنها لا يمكن
أن تدعي أنها صالحة بشكل عام. وكما سبق الإشارة إليه، فلا يمكن أن
نعزو معنى غير غامض لنتائج المشاهدة إلا بمساعدة الأفكار الكلاسيكية
فقط. ولذلك فإننا سوف نهتم دائمًا بتطبيق الاعتبارات الاحتمالية على
مخرجات التجارب التي يمكن تفسيرها بمدلول مثل هذه المعتقدات. وبناء
على ذلك، ستعتمد الاستفادة من الأفكار الرمزية في كل حالة خاصة على
كل الظروف المعينة المناسبة لمنظومة التجارب. أما ما يمنح التوصيف
الميكانيكي الكمي الصفات الغريبة فهو أنه من أجل تجنب كم الفعل لا
بد لنا أن نستخدم ترتيبات تجريبية منفصلة للحصول على قياسات دقيقة
للكميات المختلفة، التي يتطلب التوصيف الشامل لها المعرفة المتزامنة بها،
والقائم على النظريات الكلاسيكية، وكذلك لا يمكن الإمداد بهذه النتائج
التجريبية عن طريق القياسات المتكررة. وفي الحقيقة، تتطلب خاصية عدم
الانقسام في كم الفعل — عند تفسير أي نتيجة للقياسات بمدلول المعتقدات
الكلاسيكية — السماح بقدر معين من حرية العمل أو حرية الاختيار في
حساباتنا لتبادل التأثير بين الجسم ووسيلة مشاهدته. ويتضمن ذلك أن
القياسات المتتالية تُحْرم إلى حد ما المعلومات المكتسبة من قياسات سابقة
من مغزى مقدرتها على التنبؤ بالمنهج المستقبلي للظواهر. ومن الواضح أن
هذه الحقائق لا تضع حدودًا على مدى المعلومات التي يمكن الحصول عليها
بواسطة القياسات فقط، بل تضع أيضًا حدٍّا للمعنى الذي يمكن أن تصف به
هذه المعلومات. ونقابل هنا — في ثوب جديد — الحقيقة القديمة التي تقول
ليسالغرضمن وصفنا للطبيعة كشفالجوهر الحقيقي للظواهر، بل اقتفاء
أثر العلاقات بين السمات المتشعبة والمتنوعة لخبرتنا فقط كلما أمكن ذلك.
ويجب علينا أن نحكم على الصعوبات التي تواجهنا قياسًا على هذه
الخلفية، وذلك عندما نحاول أن نعطي انطباعًا صحيحًا عن محتوى نظرية
الكم وعن علاقتها بالنظريات الكلاسيكية. وكما سبق أن أكدنا عند مناقشة
المقال الثاني، فمن الممكن توضيح هذه المشاكل تمامًا فقط بمدلول الرمزية
الرياضية التي جعلت من الممكن صياغة نظرية الكم كإعادة تفسير دقيق
للنظريات الكلاسيكية قائمة على أساس فكرة التناسق. وفي ضوء التماثل
التبادلي المميز لاستخدام المفاهيم الكلاسيكية في هذه الرمزية، فقد فضل
بدلًا من كلمة reciprocity « التبادلية » الكاتب في هذا المقال مصطلح
المستخدمة في المقال السابق للدلالة على ،complementarity « التكاملية »
علاقة الاستبعاد المتبادل المميز لنظرية الكم بالنسبة لتطبيق مختلف المفاهيم
والأفكار الكلاسيكية. وفي الوقت نفسه، ونتيجة للمناقشات التي تلت ذلك،
« تبادلية » فقد نمى إلى علمي أن المصطلح الأول قد يكون مضللًا لأن كلمة
تستخدم غالبًا في النظريات الكلاسيكية بمعنى مختلف تمامًا. أما المصطلح
الذي أخذ يدخل مجال الاستخدام، فربما يكون مناسبًا أكثر ،« تكميلية »
ليذكرنا بحقيقة أن اتحاد السمات في الطريقة الكلاسيكية للتوصيف يظهر
في نظرية الكم منفصلًا، وهو ما يسمح لنا في النهاية أن نعتبر الأخير تعميمًا
طبيعيٍّا للنظريات الفيزيائية الكلاسيكية. وأكثر من ذلك، فالغرض من مثل
هذه المصطلحات التقنية هو تجنب تكرار الدوافع العامة ما أمكن، وكذلك
لنتذكر باستمرار الصعوبات التي تنشأ من حقيقة أن كل تعبيراتنا الكلامية
العادية تحمل بصمة الصيغ المعتادة للمعتقدات، وذلك من وجهة النظر
التي تقول إن وجود كم الفعل منطقي. وفي الواقع، نتيجة لهذه الحالة من
معناها غير الغامض. « يعرف » أو « يكون » العلاقات، تفقد حتى كلمات مثل
وفي هذا الصدد، هناك مثال مثير للغموض الذي يكتنف استخدامنا للغة
تقدمه العبارة المستخدمة للتعبير عن فشل الطريقة السببية في التوصيف،
وبالذات تلك التي تتحدث عن الاختيار الحر فيما يتعلق بالطبيعة. وفي
الوقع، وإذا شئنا الدقة في الحديث، فإن مثل هذه العبارة تتطلب فكرة
وجود من يختار من الخارج، الذي ينكر وجوده مع ذلك استخدام كلمة
طبيعة. ونفاجأ هنا بسمة أساسية في المشكلة العامة للمعرفة، وعلينا أن
ندرك أنه، وفقًا لطبيعة المادة نفسها، فإننا نملك ملجأً أخيرًا من صورة
كلامية تكون الكلمات فيها غير خاضعة للتحليل بذاتها. وكما سبق التأكيد
عليه في المقال، فعلينا في الواقع أن نتذكر أن طبيعة وعينا تتسبب في علاقة
تكميلية، في جميع ميادين المعرفة، بين تحليل المفهوم وتطبيقه اللحظي.
وهناك غرضان للإشارة إلى مشاكل سيكولوجية معينة في الجزء المتأخر
من المقال؛ فالتشابه الذي تبديه قوانين السيكولوجية مع بعض السمات
الأساسية لنظرية الكم، قد لا يجعل الأمر أسهل لنا لنتواءم مع الوضع
الجديد في الفيزياء، لكن ربما يثبت أن الدروس التي تعلمناها من المشاكل
الفيزيائية الأبسط كثيرًا ذات فائدة في سعينا للحصول على إدراك مفهوم
للمشاكل السيكولوجية الأكثر حدة. وكما سبق تأكيده في المقال، فمن الواضح
من وجهة نظر الكاتب أن علينا أن نهتم بتشابهات مناسبة إلى حد ما. لكن
قد يكون ما هو وراء هذه التشابهات ليس فقط القرابة فيما يتعلق بخواص
نظرية المعرفة، بل علاقة أكثر عمقًا وراء المشاكل البيولوجية الأساسية
والمرتبطة مباشرة بهذين الجانبين. ومع أنه لا يمكن القول إن نظرية الكم
قد أسهمت أساسًا في توضيح المشاكل الأخيرة، إلا أنه ما زال هناك الكثير
الذي يبين أننا معنيون هنا بالمشاكل التي تقترب كثيرًا من دائرة أفكار
نظرية الكم. وفي الواقع تتميز الكائنات الحية أولًا بالانفصال الحاد للأفراد
عن العالم الخارجي وبمقدرتها الكبيرة على التفاعل مع المثيرات الخارجية.
ومن الواضح جدٍّا أن هذه المقدرة، على الأقل من الاهتمام بانطباع المشاهدة،
تتطور حتى أقصى حدودها التي تسمح بها الفيزياء، حيث لوحظ غالبًا أن
بضعة كوانتات ضوئية فقط مطلوبة للإحساس بالرؤية. ومع ذلك، فمن
الواضح أن السؤال لا يزال قائمًا حول ما إذا كانت المعلومات التي اكتسبناها
عن القوانين التي تصف الظواهر الذرية تمدنا بأساس كاف للتعامل مع
مشكلة الكائنات الحية، أم لا تزال سمات غير متوقعة لنظرية المعرفة تكمن
وراء لغز الحياة.
ومهما كان التطور في هذا الميدان، وكما أكدنا في ختام المقال، فإن لدينا
كل الأسباب لنبتهج لأنه في المجال الموضوعي نسبيٍّا للفيزياء، حيث تراجع
مستوى العناصرالشعورية كثيرًا إلى الخلف، قد ضمنا المشاكل القادرة على
تذكيرنا من جديد بالظروف العامة التي في أساس كل الإدراك البشري،
والتي اجتذبت اهتمام الفلاسفة منذ الأزمنة السحيقة.
ملحق ( ١٩٣١ ). المقال الرابع، الذي هو تفصيل لمحاضرة ألقيت أمام الملتقى
الإسكندنافي لعلماء الطبيعة سنة ١٩٢٩ ، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمقالات الثلاثة
الأخرى، فهو محاولة لتقديم مسح، على نفس الخلفية، لموقع النظرية الذرية
في وصف الطبيعة. وبالتحديد كانت تلك رغبتي للتأكيد على أنه ومع النجاح
الكبير الذي ناله اكتشاف مكونات الذرات — وهو الاكتشاف الذي يعتمد على
تطبيق المفاهيم الكلاسيكية—فإن تطوير النظرية الذرية، مع ذلك، قد أعطانا
بادئ ذي بدء الاعتراف بالقوانين التي يمكن تضمينها في الإطار الذي تكونه
طرق معتقداتنا المعتادة. وكما أشرنا سابقًا، فإن الدروس التي تعلمناها
من اكتشاف كم الفعل قد فتحت لنا مشاهدة جديدة ربما يكون لها أهمية
حاسمة، وبالذات في مناقشة موقع الكائنات الحية في صورتنا عن الحياة.
ووفقًا لاستخدامنا المعتاد، فإننا نتحدث عن الماكينة كشيء ميت، وهو ما
يعنى أننا قادرون على إعطاء وصفكافلغرضنا فقط، لعمل الماكينة بمدلول
الصور المفهومية للميكانيكا الكلاسيكية، ومع ذلك، وفيضوء الاعتراف الحالي
بعدم كفاية المفاهيم الكلاسيكية في مجال النظرية الذرية، فإن هذا المعيار
الخاصبانعدام الحياة لا يصبح مناسبًا بعد الآن مادمنا نتعامل مع الظواهر
الذرية. إلا أن ميكانيكا الكم قد ترحل أيضًا بعيدًا بما فيه الكفاية عن نمط
الوصف الخاص بالميكانيكا الكلاسيكية لتملك زمام القوانين المميزة للحياة.
وكما أكدنا في المقال في هذا الصدد، فإن علينا أن نتذكر أن فحص ظواهر
الحياة لا يقودنا فقط إلى ميدان النظرية الذرية حيث يتحطم التفريق الحاد،
المعتاد في مثاليتنا، بين الظواهر ومشاهدتها، بل بالإضافة إلى ذلك هناك حد
أساس لتحليل ظواهر الحياة بمدلول المفاهيم الفيزيائية، ولذلك نظرًا لأن
التداخل الضروري بواسطة المشاهدة — التي نحاول أن تكون كاملة ما أمكن
من وجهة نظر النظرية الذرية — قد تتسبب في القضاء على الكائن. وبعبارة
التطبيق الدقيق لتلك المفاهيم التي تواءمت مع وصفنا للطبيعة غير » : أخرى
.« الحية، قد تكون في علاقة استبعاد لاعتبارات قوانين ظواهر الحياة
وبنفسالطريقة بالضبط — حيث من الممكن فقط على أساسالتكميلية
الأساسية بين إمكانية تطبيق مفهوم الحالات الذرية وتناسق الجسيمات
الذرية في المكان والزمان — سنأخذ في الاعتبار بطريقة منطقية الاستقرار
المميز لخواص الذرات، وهكذا من الممكن فيما يتعلق بغرابة ظواهر الحياة،
وبالذات المقدرة على الاستقرار الذاتي للكائنات، أن تكون مرتبطة ارتباطًا
وثيقًا مع عدم الإمكانية الأساسية للتحليل التفصيلي للظروف الفيزيائية التي
تحدث الحياة في ظلها. ومن أجل الاختصار، ربما يقول المرء إن ميكانيكا
الكم تهتم بالسلوك الإحصائي لعدد معين من الذرات تحت ظروف خارجية
محددة جيدًا، في حين نحن غير قادرين على تحديد حالة كائن حي بمدلول
المقاييس الذرية، وفي الحقيقة، ونتيجة للأيضفي الكائن، فمن الممكن تحديد
هل الذرات تنتمي للفرد الحي أم لا. وفي هذا الصدد فإن ميدان الميكانيكا
الكمية الإحصائية، الذي يقوم على دوافع التناسق، يشغل موقعًا وسطًا
بين مجال إمكانية تطبيق طريقة الوصف الخاصة بسببية الزمكان المثالية
ومجال البيولوجيا الذي يتميز بدوافع إلغائية.
ومع أن الفكرة قد وضعت بهذا الشكل، فهي معنية بالسمات الفيزيائية
للمشكلة، لكنها ربما أيضًا تتعدل في صورة خلفية لترتيب السمات الفيزيائية
للحياة. وكما فسرنا في المقال الثالث، وأشرنا إليه فيما سبق، فإن تأثير
استبطان كل الخبرة الفيزيائية الذي لا يمكن تجنبه، والذي يتميز بالإحساس
بالإرادة، يظهر تشابهًا صارخًا مع الظروف المسئولة عن فشل السببية
في تحليل الظواهر الذرية. وفوق كل ذلك وكما أشرنا في حينه، فإن
التحسين الضروري لتفسيرنا، القائم أصلًا على السببية الفيزيائية، للتوازي
السيكولوجي — الفيزيائي لا بد أن ينتج من أخذنا في الاعتبار التحور
غير المتوقع للخبرة السيكولوجية الناتجة عن أي محاولة للتتبع الموضوعي
للعمليات الفيزيائية المصاحبة لها في الجهاز العصبي المركزي. وفيما يتعلق
بذلك، لا يجب أن ننسى، مع ذلك، أنه في ترافق السمات السيكولوجية
والفيزيائية للوجود، فإننا معنيون بالعلاقة الخاصة للتكميلية التي لا يمكن
فهمها تمامًا بتطبيق أحادي الجانب لأي من القوانين الفيزيائية أو القوانين
السيكولوجية. وباعتبار الدروس العامة التي تعلمناها من النظرية الذرية،
ربما يبدو كذلك أن التخلي بالمعنى الذي شُرِحَ في المقال الرابع بتفصيل أكثر
هو فقط — في هذا الصدد، على الأرجح — ما سيمكننا من الفهم، وإدراك
التناغم الذي نختبره كرغبة حرة والذي نحلله بمدلول السببية.

تعليقات