تاريخ: كيمياء وصراع

تاريخ: كيمياء وصراع

يثني أليكس ويلرشتاين على سيرة ذاتية لجيمس كونانت، المحارِب العلمي في الحرب الباردة.
أليكس ويلرشتاين
جيمس كونانت كان عَلَمًا ورمزًا أساسيًّا في نطاقات التقاء العلوم بالسياسة، وفي مشروع مانهاتن.
على الرغم من أن بصمة جيمس بي. كونانت في مجال العلوم بالولايات المتحدة كانت كبيرة، فإن اسمه غير مألوف بالدرجة خارج دوائر تأثيره الأساسية، وهي: الكيمياء، وجامعة هارفارد، وتصنيع القنبلة الذرية. ولا توحي هيئته الصبيانية النحيفة ونظارته، كما يبدو من صوره،  بأهميته في العديد من نقاط الالتقاء الرئيسة بين العلوم والسياسة في القرن العشرين. كان كونانت (الذي عاش ما بين عامي 1893، و1978) واحدًا من أول العلماء الإداريين وأبرزهم. وبين بزوغ فجر الحرب العالمية الأولى، ونهاية الحرب الباردة، أحدث هذا النسل الجديد من الخبراء التقنيين ثورة في عالم الأسلحة، والتعليم، والحُكْم.
يُعتبر كتاب "رجل الساعة" Man of the Hour، الذي كتبته حفيدة كونانت - جانيت كونانت - نظرة جديدة على حياته. ومن الكتب التي تناولت سيرته الذاتية وكان لها أصداء واسعة، آخِر سِّيَرة ذاتية رئيسة عنه من تأليف جيمس هيرشبرج في عام 1993، بعنوان "جيمس بي. كونانت: من هارفارد إلى هيروشيما، ومولد العصر الذَّرِّي"James B. Conant: Harvard to Hiroshima and the Making of the Nuclear Age (نوبف). تُعتبر جانيت كونانت كاتبة محنكة للسِّيَر الذاتية للعلماء، ومن بينهم رائد تكنولوجيا الرادار، ألفريد لوميس، وعالِم الفيزياء النووية، جيه. روبرت أوبنهايمر، بالإضافة إلى كونها مؤلفة دراسة حول مجموعة من الجواسيس البريطانيين في واشنطن العاصمة إبان الحرب العالمية الثانية. ومِثل كتاب هيرشبرج، يُعتبر كتابها محطة مهمة، إلا أن كونانت نفسه كان قد أشار إلى أنه عاش "عدة حيوات".
"كان كونانت واحدًا من جيل من الخبراء الأمريكيين الذين بدأوا في وضع العلوم الأمريكية على الخريطة".
في حياته الأولى، كان كونانت كيميائيًّا ناجحًا، صاعدًا وواعدًا، يفتقر إلى الصقل والنسب اللذَين تمتع بهما العديد من أقرانه من طلاب جامعة هارفارد في كامبريدج بماساشوستس، إلا أنه عوَّض ذلك بموهبته، وطموحه الذي لا يستكين. كانت براعته في الكيمياء العضوية والفيزيائية نادرة من نوعها في ذلك الوقت، وهو ما عجّل بكونه أصبح من عمالقة البحوث. وكان كونانت واحدًا من جيل من الخبراء الأمريكيين الذين بدأوا في وضع العلوم الأمريكية على الخريطة بشكل مستقل عن النفوذ الأوروبي. ومع بدء الحرب العالمية الأولى، حاول كونانت لفترة زمنية قصيرة التربح من الحرب، من خلال إنشاء مختبر للكيمياء العضوية؛ انتهى بانفجارٍ، ووفاة أحد الزملاء. ولاحقًا، أشرف على تصنيع غاز سام جديد – غاز لويسيت - في مصنع سِرِّي، قرب كليفلاند في أوهايو، ضمن برنامج الأسلحة الكيميائية الأمريكي. وانتهت الحرب قبل استخدامه، لكن محاولته هذه في العمل العسكري لم تكن الأخيرة.
في عام 1933، وخلال حياته الثانية، أصبح كونانت – على نحو غير متوقع لشخص في خبرته التقنية ضيقة النطاق - رئيسًا لهارفارد. وقد أثبت أنه إداري ماهر، رغم أن فترته لم تمر دون مشكلات؛ مثل محاولات لم تلق قبول واسع لإصلاح عملية التعيين، وتَلَقِّيه ضربات من الزملاء ومن الصحافة. ومع ظهور الفاشية كمصدر قلق مُلح، سعى كونانت جاهدًا من أجل إيجاد توازن؛ فقد كان يدافع عن الديموقراطية بشغف وحماس، فيما كان يقدم المشورة ضد الآراء المتطرفة من كافة الأنواع. وفي فترة الهدوء التي سبقت دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، قام بالضغط من أجل تعاون أفضل بين مجال العلوم والحكومة، وأصبح شريكًا مهمًّا للمهندس فانيفار بوش، الذي كان تأثيره مع الرئيس فرانكلين دي. روزفيلت كبيرًا، لدرجة أنْ تم إنشاء منظمات حكومية جديدة من العدم. وتولى كونانت قيادة قسم الكيمياء في لجنة بحوث الدفاع الوطني (NDRC) التابعة لبوش في عام 1940، وتولى قيادة اللجنة بالكامل في العام التالي، عندما أصبحت مجلسًا استشاريًّا لمكتب البحث العلمي والتطوير.
وبصفته رئيسًا للجنة، وشخصًا محل ثقة بالنسبة إلى بوش، أصبح كونانت مشاركًا بشكل وثيق في الجهود الأمريكية لإنشاء قنبلة ذرية. وعادةً ما يُعزى الفضل العلمي في ذلك إلى الباحثين المنفذين، مثل أوبنهايمر، لكن كونانت أنشأ العديد من العناصر الهيكلية المهمة في مشروع مانهاتن، وكان أول مَن اقترح أن تكون أكثر البحوث سرية مُتمركزة في مختبر بعيد (وفي النهاية، تم قصرها على لوس ألاموس في نيومكسيكو). وقد صدق على كل القرارات الإدارية الكبيرة تقريبًا، بما فيها تعيين أوبنهايمر كرئيس للمختبر. وكان غالبًا بمثابة صوت للتشكك والبراجماتية، إذ طلب أدلة دامغة تثبت جدارة المشروع. كما كان كونانت هو أيضًا مَن اقترح أن يتم إسقاط القنبلة على منشآت عسكرية يابانية، محاطة بمنازل تخص العمال؛ ما قاد في النهاية إلى اختيار هيروشيما. ولم يُبدِ أبدًا ندمه على هذا الهجوم، رغم أنه عبَّر بشكل خاص عن اعتقاده بأن ضربة ناجازاكي لم تكن ضرورية، حسب قول هيرشبرج. ورغم ذلك، قام كونانت وبوش بممارسة ضغوط كبيرة؛ من أجل الحدّ من الأسلحة النووية على المستوى الدولي، حتى خلال الحرب، لكنه كان أقل نجاحًا في ذلك. وفي أواخر أربعينيات القرن الماضي، بينما كان مستشارًا كبيرًا في حكومة الرئيس الأمريكي هاري ترومان، عارَض صراحةً القنبلة الهيدروجينية، ولكنه - للمرة الثانية - لم ينجح.
وفي مطلع فترة رئاسة دوايت أيزنهاور في عام 1953، بدأ كونانت – الذي كان في ذلك الوقت قد أصبح معلمًا وإداريًّا محنكًا - حياته الثالثة كمسؤول سياسي رفيع المستوى. فقد أصبح مفوض الأمم المتحدة السامي لألمانيا، مساعدًا البلاد على الانتقال من الاحتلال إلى الحكم الذاتي. ولطالما كان كونانت ينظر إلى ألمانيا على أنها يُضرب بها المثل، سواء في الأفضل أو الأسواء، في في الأعمال الكيميائية، والتعليم، والتعاون بين العلوم والصناعة والحكم. وكان يرى أن أدولف هتلر وغيره من الزعماء الديماجوجيين قد سلبوها إمكاناتها الحقيقية. وعندما أصبحت ألمانيا الغربية تُحكم ذاتيًّا في عام 1955، أصبح كونانت أول سفير أمريكي لديها. وفي عام 1958، عاد إلى الولايات المتحدة، حيث قام بالضغط من أجل إصلاح التعليم، من خلال معايير معينة، مثل الاختبارات الموحدة، وحظي بشيء من النجاح في ذلك. واستمر في الكتابة عن القضايا المجتمعية، فيما تم اعتباره حيودًا عن مجال خبرته، وانتهى إلى تأليف 21 كتابًا في موضوعات مختلفة. وذكرت صحيفة "ذا نيويورك تايمز" The New York Times أن وفاته عن 84 عامًا قد تركت "فراغًا"، إذ لم يكن في البلاد معلِّم آخر يتمتع بسعة الأفق نفسها.
وليس من المستغرب أن تجنح جانيت كونانت إلى تفسير سلوك جدها بشكل أكثر تعاطفًا من هيرشبرج؛ فانظر مثلًا إلى زواج كونانت من جريس ريتشاردز، ابنة مشرفه في هارفارد، ثيودور ريتشاردز، الحائز جائزة "نوبل". يرى هيرشبرج أن تلك ربما كانت خطوة مهنية مدروسة، بينما ترى جانيت كونانت أن الدافع الوحيد وراءها كان الحب والتوافق الفكري. وكلاهما يبدو معقولًا. وفي الواقع، تتيح مقارنة السيرتين التوصل إلى فهْم تكميلي للرجل، رغم بعض التعارض الحتمي؛ فإذا أردت أن تعرف أكثر عن كونانت، باعتباره "محاربًا في الحرب الباردة"، فكتاب هيرشبرج يحتوي على ذلك، وأكثر. أما كتاب "رجل الساعة"، فهو أقوى على صعيد سمات القوة في الشخصية والمواهب، والتوقيت الذي دفعه إلى الدخول في العديد من مواقع التأثير. وربما يعود ذلك جزئيًّا إلى الأوراق والمصادر الشخصية في متناول المؤلفة.
إن جانيت كونانت كاتبة جيدة، وتأتي السيرة الذاتية التي كتبتها في لحظة مواتية؛ فقصة محاولات جيمس كونانت إنشاء حكومة أمريكية عقلانية، وجمهور أفضل تثقيفًا، ورؤيته لبروز دور تشكيلي للولايات المتحدة في عالَم دائم التغير، هي تذكرة مهمة في عصر من الخبرات متدنِّية القيمة، والأزمات التعليمية، والحُكْم المضطرب.
أليكس ويلرشتاين أستاذ مساعد لدراسات العلوم والتكنولوجيا في كلية الفنون والآداب في "معهد ستيفنز للتكنولوجيا" في هوبوكين، نيوجيرسي.

تعليقات